7 - وحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ أَنَّهُ سَمِعَ شَرَاحِيلَ بْنَ يَزِيدَ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ»
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ -وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّاْمِ- فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا تَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ لاَ. قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ لاَ. قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ. فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِيهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ- أُسْقُف عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث أطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541]. (حدّثنا أبو اليمان) بفتح المثناة وتخفيف الميم واسمه (الحكم بن نافع) بفتح الحاء المهملة والكاف الحمصي البهراني مولى امرأة من بهراء بفتح الموحدة المتوفى سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومائتين، وللأصيلي وكريمة وأبي ذر وابن عساكر في نسخة حدّثنا الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة بالحاء المهملة والزاي دينار القرشيالأموي مولاهم أبو بشر المتوفى سنة اثنتين أو ثلاث وستين ومائة، (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن) بفتح الهمزة (عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره أن) بفتح الهمزة (أبا سفيان) بتثليث السين يكنى أبا حنظلة واسمه صخر بالهملة ثم المعجمة (ابن حرب) بالمهملة والراء ثم الموحدة ابن أمية ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح، وشهد الطائف وحنينًا، وفقئت عينه في الأولى والأخرى يوم اليرموك، وتوفي بالمدينة سنة إحدى أو أربع وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنهما. (أخبره) (أن) أي بأن (هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، وحكي فيه هرقل بسكون الراء وكسر القاف كخندف والأوّل هو الأشهر والثاني حكاه الجوهري وغيره، واقتصر عليه صاحب الموعب والقزاز ولقبه قيصر، قاله الشافعي وهو أوّل من ضرب الدنانير وملك الروم إحدى وثلاثين سنة وفي ملكه توفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أرسل اليه) أي إلى أبي سفيان حال كونه (في) أي مع (ركب) جمع راكب كصحب وصاحب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها، (من قريش) صفة لركب وحرف الجر لبيان الجن أو للتبعيض، وكان عدد الركب ثلاثين رجلاً كما عند الحاكم في الإكليل، وعند ابن السكن نحو من عشرين، وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب أن المغيرة بن شعبة منهم، واعترضه الإمام البلقيني بسبق إسلام المغيرة فإنه أسلم عام الخندق فيبعد أن يكون حاضرًا ويسكن مع كونه مسلمًا (و) الحال أنهم (كانوا تجارًا) بالضم والتشديد على وزن كفّار وبالكسر والتخفيف على وزن كلاب، وهو الذي في الفرع كأصله جمع تاجر أي متلبسين بصفة التجارة (بالشام) بالهمز، وقد يترك وقدّ تفتح الشين مع المد وهو متعلق بتجارًا أو بكانوا أو يكون صفة بعد صفة (في المدة التي كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مادّ) بتشديد الدال من مادد فأدغم الأوّل في الثاني من المثلين وهو مدة صلح الحديبية سنة ست التي مادّ (فيها أبا سفيان) زاد الأصيلي ابن حرب، (وكفار قريش) أي مع كفار قريش على وضع الحرب عشر سنين. وعند أبي النعيم أربع، ورجح الأوّل. وكفار بالنصب مفعل معه أو عطف على المفعول به وهو أبا سفيان، (فأتوه) أي أرسل إليه في طلب إتيان الركب، فجاء الرسول فوجدهم بغزة وكانت وجه متجرهم كما في الدلائل لأبي نعيم، فطلب إتيانهم فأتوه (وهم) بالميم أي هرقل وجماعته، ولأبوي الوقت وذر عن الكشميهني والأصيلي وهو (بإيلياء) بهمزة مكسورة فمثناتين آخر الحروف أولاهما ساكنة بينهما لام آخره ألف مهموزة بوزن كبرياء، وإيليا بالقصر حكاه البكري، وإلياء بحذف الياء الأولى وسكون اللام. قال البرماوي: بوزن إعطاء، وإيلاء مثله لكن بتقديم الياء على اللام، حكاه النووي واستغربه. وإيليا بتشديد الياء الثانية والقصر حكاه البرماوي عن جاجع الأصول، ورأيته في النهاية. والإيلياء بالألف واللام كذا نقله النووي في شرح مسلم عن مسند أبي يعلى الموصلي واستغربه وهو بيت المقدس والباء بمعنى في (فدعاهم) هرقل حال كونه (في مجلسه وحوله) نصب على الظرفية وهو خبر المبتدأ الذي هو (عظماء الروم) وهم من ولد عيص بن إسحق بن إبراهيم على الصحجح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وغيرهم من غسان كانوا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم واستوطنوها فاختلطت أنسابهم. وعند ابن السكن وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان (ثم دعاهم) عطف على قوله فدعاهم، وليس بتكرار بل معناه أمر بإحضارهم، فلما حضروا وقعت مهلة ثم استدناهم كما أشعر بها الأداة الدالّة عليها، (ودعا ترجمانه) بالنصب على المفعولية وللأصيلي كما في الفتح وأبي الوقت كما في الفرع كأصاله وغيرهما بترجمانه، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بالترجمان بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم فيهما وقد تضم التاء فيهما إتباعًا، وهو في ضبط الأصيلي ويجوز فتحهما وضم الأوّل وفتح الثاني وهو المفسرلغة بلغة، يعني أرسل إليه رسولاً أحضره بصحبته أو كان حاضرًا واقفًا في المجلس كلما جرت به عادة ملوك الأعاجم، ثم أمره بالجلوس إلى جنب أبي سفيان ليعبر عنه بما أراد، ولم يسم الترجمان. ثم قال هرقل للترجمان قل لهم أيكم أقرب (فقال) الترجمان (أيكم أقرب نسبًا لهذا الرجل) ضمن أقرب معنى اقعد فعدّاه بالباء، وعند مسلم المؤلف في آل عمران من هذا الرجل وهو على الأصل، وفي الجهاد إلى هذا الرجل ولا إشكال فيها، فإن أقرب يتعدى بإلى. قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16] والمفضل عليه محذوف أي من غيره، وزاد ابن السكن الذي خرج بأرض العرب (الذي يزعم)، وعند ابن إسحق عن الزهري يدّعي (أنه نبيّ فقال) بالفاء، ولأبي الوقت وابن عساكر والأصيلي قال (أبو سفيان: قلت) وفي رواية كما في اليونينية بغير رقم فقلت بزيادة الفاء (أنا أقربهم نسبًا). وللأصيلي كما في الفرع كأصله أنا أقربهم به نسبًا أي من حيث النسب، وأقربية أبي سفيان لكونه من بني عبد مناف وهو الأب الرابع للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولأبي سفيان، وخصّ هرقل الأقرب لكونه أحرى بالاطّلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، لكن قد يقال: إن القريب متهم في الإخبار عن نسب قريبه بما يقتضي شرفًا وفخرًا، ولو كان عدوًّا له لدخوله في شرف النسب الجامع لهما، (فقال) أي هرقل، وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر عن الحموي قال: (أدنوه مني) بهمزة قطع مفتوحة كما في الفرع، وإنما أمر بإدناء أبي سفيان ليمعن في السؤال ويشفي غليله. (وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره) لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب كما صرح به الواقدي في روايته. (ثم قال) هرقل (لترجمانه: قل لهم) أي لأصحاب أبي سفيان (إني سائل هذا) أي أبا سفيان (عن هذا الرجل) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأشار إليه إشارة القريب لقرب العهد بذكره أو لأنه معهود في أذهانهم (فإن كذبني) بالتخفيف أي إن نقل إليّ الكذب (فكذبوه) بتشديد الذال المعجمة المكسورة، قال التيمي كذب بالتخفيف يتعدّى إلى مفعولين مثل صدق تقول كذبني الحديث وصدقني الحديث، وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد وهما من غرائب الألفاظ لمخالفتهما الغالب، لأن الزيادة تناسب الزيادة وبالعكس والأمر هنا بالعكس اهـ. (قال) أي أبو سفيان وسقط لفظ قال لكريمة وأبي الوقت كذا هي ساقطة من اليونينية مطلقًا، (فوالله لولا الحياء) وفي نسخة كريمة لولا أن الحياء: (من أن يأثروا عليّ) بضم المثلثة وكسرها، وعلي بمعنى عني أي رفقتي يروون عني (كذبًا) بالتنكير، وفي غير الفرع وأصله الكذب فأعاب به لأنه قبيح ولو على عدوّ (لكذبت عنه). لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي اياه. وللأصيلي وأبوي الوقت وذر عن الحموي لكذبت عليه. (ثم كان أوّل ما سألني عنه) بنصب أوّل في فرع اليونينية كهي، قال في الفتح: وبه جاءت الرواية وهو خبر كان واسمها ضمير الشأن وقوله الآتي إن قال، بدل من قوله ما سألني عنه. ويجوز أن يكون إن قال اسم ان، وقوله أوّل ما سألني خبره وتقديره، ثم كان قوله كيف نسبه فيكم أوّل ما سألني عنه، ويجوز رفعه اسمًا لكان، وذكر العيني وروده رواية ولم يصرح به في الفتح، إنما قال: ويجوز رفعه على الاسمية وخبره قوله (أن قال كيف نسبه) عليه الصلاة والسلام (قيكم) أي ما حال نسبه أهو من أشرافكم أم لا؟ لكن قال العلاّمة البدر الدماميني: إن جواز النصب والرفع لا يصح على إطلاقه، وإنما الصواب التفصيل، فإن جعلنا ما نكرة بمعنى شيء تعين نصبه على الخبرية، وذلك لأن إن قال وأوّل ما سألني هو الخبر ضرورة أنه متى اختلف الاسمان تعريفًا وتنكيرًا فالمعرف الاسم والمنكر الخبر، ولا بعكس إلاّ في الضرورة. وإن جعلناها موصولة جاز الأمران، لكن المختار جعل أن قال هو الاسم لكونه أعرف اهـ. قال أبو سفيان: (قلت هو فينا ذو نسب) أيصاحب نسب عظيم، فالتنوين للتعظيم كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أي عظيمة، (قال) هرقل (فهل قال هذا القول منكم) من قريش (أحد قط) بتشديد الطاء المضمومة مع فتح القاف، وقد يضمان وقد تخفف الطاء وتفتح القاف ولا يستعمل إلا في الماضي المنفي، واستعمل هنا بغير أداة النفي وهو نادر، وأجيب بأن الاستفهام حكمه حكم النفي كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط (قبله) بالنصب على الظرفية، وللأصيلي والكشميهني وكريمة وابن عساكر مثله بدل قوله قبله، وحينئذ يكون بدلاً من قوله هذا القول، قال أبو سفيان (قلت لا) أي لم يقله أحد قبله. (قال) هرقل (فهل كان من آبائه من) بكسر الميم حرف جر (ملك) بفتح الميم وكسر اللام صفة مشبهة، وهذه رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر، ورواه ابن عساكر في نسخة وأبو ذر عن الكشميهني من بفتح الميم اسم موصول وملك فعل ماضٍ، ولأبي ذر كما في الفتح فهل كان من آبائه ملك بإسقاط من، والأوّل أشهر وأرجح. قال أبو سفيان (قلت: لا. قال) هرقل (فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم) وعند المؤلف في التفسير أيتبعه أشراف الناس بإثبات همزة الاستفهام، وللأربعة فأشراف الناس اتبعوه. قال أبو سفيان (قلت) ولغير الأربعة فقلت (بل ضعفاؤهم) أي اتبعوه، والشرف علو الحسب والمجد والمكان العالي، وقد شرف بالضم فهو شريف وقوم شرفاء وأشراف وفي الفتح تخصيص الشرف هنا بأهل النخوة والتكبّر لا كل شريف ليخرج مثل العمرين ممن أسلم قبل سؤال هرقل، وتعقبه العيني بأن العمرين وحمزة كانوا من أهل النخوة. فقول أبي سفيان جرى على الغالب. ووقع في رواية ابن إسحق تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد. قال الحافظ ابن حجر، وهو محمول على الأكثر الأغلب. (قال) هرقل (أيزيدون أم ينقصون) بهمزة الاستفهام، وفي رواية سورة آل عمران بإسقاطها، وجزم ابن مالك بجوازه مطلقًا خلافًا لمن خصّه بالشعر. قال أبو سفيان (قلت بل يزيدون. قال) هرقل: (فهل يرتد أحد منهم سخطة) بفتح السين المهملة في اليونينية ليس إلا وبالنصب مفعول لأجله أو حال أي ساخطًا أي كراهة وعدم رضا، وجوّز في الفتح ضم السين. وعبارته سخطة بضم أوّله وفتحه، وتعقبه العيني فقال: السخطة بالتاء إنما هي بالفتح فقط، والسخط بلا تاء يجوز فيه الضم والفتح مع أن الفتح يأتي بفتح الخاء، والسخط بالضم يجوز فيه الوجهان ضم الخاء معه وإسكانها اهـ. قلت: في رواية الحموي والمستملي سخطة بضم السين وسكون الخاء، أي فهل يرتد أحد منهم كراهة (لدينه بعد أن يدخل فيه) أخرج به من ارتد مكرهًا أولاً سخطًا لدين الإسلام بك لرغبة في غيره كحظ نفساني كما وقع لعبيد الله بن جحش. قال أبو سفيان (قلت: لا). فإن قلت: لمِ لم يستغن هرقل بقوله بل يزيدون عن قوله هل يرتد أحد منهم الخ، أجيب: بأنه لا ملازمة بين الازدياد والنقص فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل وقلة من يرتد مثلاً، وإنما سأل عن الارتداد لأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل. (قال) هرقل: (فهل كنتم تتهمونه بالكذب) على الناس (قبل أن يقول ما قال) قال أبو سفيان: (قلت: لا) وإنما عدل عن السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التهمة تقريرًا لهم على صدقه لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها. (قال) هرقل (فهل يغدر) بدال مهملة مكسورة أي ينقض العهد؟ قال أبو سفيان: (قلت لا، ونحن منه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في مدة) أي مدة صلح الحديبية أو غيبته وانقطاع أخباره عنّا. (لاّ ندري ما هو فاعل فيها) أي في المدة، وفي قوله: لا ندري إشارة إلى عدم الجزم بغدره (قال) أبو سفيان (ولم تمكني) بالمثناة الفوقية أو التحتية (كلمة أدخل فيها شيئًا) انتقصه به (غير هذه الكلمة). قال في الفتح: التنقيص هنا أمر نسبي لأن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوعذلك منه في الجملة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولكن لما كان الأمر مغيبًا لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولذا أورده على التردد ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه اهـ. وغير بالرفع صفة لكلمة، ويجوز فيها النصب صفة لشيئًا وليس في الفرع غير الأوّل، وصحح عليه. فإن قلت: كيف يكون غير صفة لهما وهما نكرتان وغير مضاف إلى المعرفة؛ أجيب: بأنه لا يتعرف بالإضافة إلا إذا اشتهر المضاف بمغايرة المضاف إليه، وههنا ليس كذلك. وعورض بأن هذا مذهب ابن السراج والجمهور على خلافه فنحو غير المغضوب عليهم يعرب بدلاً من الذين أو صفة له تنزيلاً للموصول منزلة النكرة فجاز وصفها بالنكرة. (قال) هرقل (فهل قاتلتموه) نسب ابتداء القتال إليهم ولم ينسبه إليه عليه الصلاة والسلام لما اطّلع عليه من أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، قال أبو سفيان (قلت نعم) قاتلناه. (قال) هرقل (فكيف كان قتالكم إياه) بفصل ثاني الضميرين والاختيار أن لا يجيء المنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل، وقيل قتالكم إياه أفصح من قتالكموه باتصال الضمير، فلذلك فصله وصوّبه العيني تبعًا لنص الزمخشري. قال أبو سفيان (قلت) وللأصيلي قال (الحرب بيننا وبينه سجال) بكسر السين المهملة وبالجيم المخففة أي نوب نوبة لنا ونوبة له كما قال (ينال منا وننال منه) أي يصيب منا ونصيب منه. قال البلقيني: هذه الكلمة فيها دسيسة أيضًا لأنهم لم ينالوا منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطّ، وغاية ما في غزوة أُحُد أن بعض المقاتلين قتل وكانت العزة والنصرة للمؤمنين اهـ. وتعقب بأنه قد وقعت المقاتلة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم قبل هذه القصة في ثلاثة مواطن: بدر وأُحُد والخندق، فأصاب المسلمون من المثركين في بدر وعكسه في أُحُد وأصيب من الطائفتين ناس قليل في الخندق، فصح قول أبي سفيان يصيب منا ونصيب منه، وحينئذ فلا دسيسة هنا في كلام أبي سفيان كما لا يخفى، والجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب. قال في المصابيح: فإن قلت: فما يصنع الشلوبين القائل بأنها في حكم مفسرها إن كان ذا محل فهي كذلك وإلاّ فلا، وهي ههنا مفسرة للخبر فيلزم أن تكون ذات محل لكنها خالية عن رابط يربطها بالمبتدأ قلت: تقدره أي ينال منا فيها وننال فيها منه اهـ. والسجال مرفوع خبر للحرب واستشكل جعله خبرًا لكونه جمعًا والمبتدأ مفرد فلم تحصل المطابقة بينهما، وأجيب كما في الفتح بأن الحرب اسم جنس والسجال اسم جمع، وتعقبه العيني بأن السجال ليس اسم جمع بل هو جمع وبينهما فرق، وجوّز أن يكون سجال بمعنى المساجلة فلا يرد السؤال أصلاً. وفي قوله الحرب بيننا وبينه سجال تشبيه بليغ شبه الحرب بالسجال مع حذف أداة التشبيه لقصد المبالغة كقولك: زيد أسد إذا أردت به المبالغة في بيان شجاعته فصار كأنه عين الأسد. وذكر السجال وأراد به النوب يعني الحرب بيننا وبينه نوب نوبة لنا ونوبة له كالمستقيين إذا كان بينهما دلو يستقي أحدهما دلوًا والآخر دلوًا. (قال) هرقل (ما) بإسقاط الباء الموحدة في اليونينية وهي مكشوطة من الفرع، وفي بعض الأصول بما، وفي نسخة فما (ذا يأمركم)، أي ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: (قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا) بالواو، وفي رواية المستملي اعبدوا الله لا تشركوا بحذف الواو، وحينئذ فيكون تأكيدًا لقوله وحده، وهذه الجملة عطف على اعبدوا الله وهي من عطف المنفي على المثبت وعطف الخاص على العام؛ على حدّ {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4]، فإن عبادته تعالى أعمّ من عدم الإشراك به (واتركوا ما يقول آباؤكم) من عبادة الأصنام وغيرهما مما كانوا عليه في الجاهلية. (ويأمرنا بالصلاة) المعهودة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وفي نسخة مما في اليونينية بزيادة والزكاة (والصدق) وهو القول المطابق للواقع. وفي رواية للمؤلف بالصدقة بدل الصدق، ورجحها الإمام البلقيني، قال الحافظ ابن حجر: ويقوّيها رواية المؤلف في التفسير والزكاة وقد ثبت عنده من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي اللفظان الصدقةوالصدق (والعفاف) بفتح العين أي الكف عن المحارم وخوارم المروءة (والصلة) للأرحام وهي كل ذي رحم لا تحلّ مناكحته أو فرضت الأنوثة مع الذكورة، أو كل ذي قرابة. والصحيح عمومه في كل ما أمر الله به أن يوصل كالصدقة والبر والإنعام. قال في التوضيح: من تأمل ما استقرأه هرقل من هذه الأوصاف تبين له حسن ما استوصف من أمره واستبرأه من حاله والله دره من رجل ما كان أعقله لو ساعدته المقادير بتخليد ملكه والأتباع (فقال) هرقل (للترجمان قل له) أي لأبي سفيان: (سألتك عن) رتبة (نسبه) فيكم أهو شريف أم لا (فذكرت أنه فيكم ذو) أي صاحب (نسب) شريف عظيم (فكذلك) بالفاء وللأربعة وكذلك (الرسل تبعث في) أشرف (نسب قومها) جزم به هرقل لما تقرر عنده في الكتب السالفة. (وسألتك: هل قال أحد) ولأبي ذر كما في الفرع كأصله وسألتك قال أحد (منكم هذا القول) زاد في نسخة قبله. (فذكرت أن لا فقلت) أي في نفسي وأطلق على حديث النفس قولاً (لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله) يأتسي بهمزة ساكنة بعدها مثناة فوقية مفتوحة وسين مهملة مكسورة أي يقتدي ويتبع. ولأبي ذر عن الكشميهني يتأسى بتقديم المثناة الفوقية على الهمزة المفتوحة، وفتح السين المشدّدة. (وسألتك هل كان من آبائه من ملك) وللكشميهني من ملك بفتح الميمين (فذكرت أن لا قلت) وللأصيلي وابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني فقلت (فلو) ولأبي الوقت لو (كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه). فإن قلت لم قال أبيه بالإفراد؟ أجيب: ليكون أعذر في طلب الملك بخلاف ما لو قال ملك آبائه أو المراد بالأب ما هو أعم من حقيقته ومجازه. نعم في سورة آل عمران آبائه بالجمع. فإن قلت لم قال هرقل فقلت في هذين الموضعين وهما: هل قال هذا القول أحد منكم، وهل كان من آبائه من ملك؟ أجيب: بأن هذين المقامين مقاما فكر ونظر بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل. قال هرقل لأبي سفيان: (وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أئه لم يكن ليذر) اللام فيه لام الجحود لملازمتها النفي وفائدتها تأكيد النفي نحو: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] أي لم يكن ليدع (الكذب على الناس) قبل أن يظهر رسالته. (ويكذب) بالنصب (على الله) بعد إظهارها. (وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل) غالبًا لأنهم أهل الاستكانة بخلاف أهل الاستكبار المصرّين على الشقاق بغيًا وحسدًا كأبي جهل، ويؤيد استشهاده على ذلك قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُون} [الشعراء: 111] المفسر بأنهم الضعفاء على الصحيح. قال هرقل لأبي سفيان (وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان) فإنه لا يزال في زيادة (حتى يتم) بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها، ولهذا نزل في آخر سنيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. (وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين) بالنون، وفي بعض النسخ حتى بالمثناة الفوقية، وفي آل عمران، وكذلك الإيمان إذا خالط قال في الفتح وهو يرجح أن رواية حتى وهم، والصواب وهو رواية الأكثر حين (تخالط) بالمثناة الفوقية (بشاشته القلوب) بفتح الموحدة والشينين المعجمتين وضم التاء وإضافته إلى ضمير الإيمان. والقلوب نصب على المفعولية. أي تخالط بشاشة الإيمان القلوب التي تدخل فيها، وللحموي والمستملي يخالط بالمثناة التحتيه بشاشة بالنصب على المفعولية والقلوب بالجر على الإضافة، والمراد ببشاشة القلوب انشراح الصدر والفرح والسرور بالإيمان. (وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة. (وسألتك بما يأمركم) بإثبات الألف معما الاستفهامية وهو قليل. كذا قاله الزركشي وغيره، وتعقبه في المصابيح بأنه لا داعي هنا إلى التخريج على ذلك، إذ يجوز أن تكون الباء بمعنى عن متعلقة بسأل نحو فاسأل به خبيرًا، وما موصولة والعائد محذوف، ثم أورد سؤالاً وهو أن أمر يتعدى بالباء إلى المفعول الثاني، تقول: أمرتك بكذا فالعائد حينئذ مجرور بغير ما جر به الموصول معنى، فيمتنع حذفه. وأجاب بأنه قد ثبت حذف حرف الجر من المفعول الثاني فينصب حينئذ نحو: أمرتك الخير، وعليه حمل جماعة من المغربين قوله تعالى: {مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] فجملوا ماذا المفعول الثاني، وجعلوا الأوّل محذوفًا لفهم المعنى، أي تأمريننا. وإذا كان كذلك جعلنا العائد المحذوف منصوبًا ولا ضير اهـ. (فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا و) أنه (ينهاكم عن عبادة الأوثان) جمع وثن بالمثلثة وهو الصنم واستفاده هرقل من قوله ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان (و) أنه (يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف) ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان، وسقط هنا إيراد تقدير السؤال العاشر، والذي بعده جوابه وثبت ذلك جميعه في الجهاد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقًا) لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب (فسيملك) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (موضع قدميّ هاتين) أرض بيت المقدس أو أرض ملكه. (وقد كنت أعلم أنه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (خارج) قاله لما عنده من علامات نبوّته عليه الصلاة والسلام الثابتة في الكتب القديمة، وفي رواية سورة آل عمران فإن كان ما تقول حقًا فإنه نبي؛ وفي الجهاد وهذه صفة نبي، ووقع في أمالي المحاملي رواية الأصبهانيين من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي سفيان أن صاحب بصرى أخذه وناسًا معه في تجارة، فذكر القصة مختصرة دون الكتاب وزاد في آخرها قال: فأخبرني هل تعرف صورته إذا رأيتها، قلت: نعم، قال: فأدخلت كنيسة لهم فيها الصور فلم أره ثم أدخلت أخرى فإذا أنا بصورة محمد وصورة أبي بكر (لم) بإسقاط الواو ولابن عساكر في نسخة ولم (أكن أظن أنه منكم) أي من قريش (فلو أني أعلم أني) وسقطت أني الأولى في نسخة، ولأبي الوقت إنني (أخلص) بضم اللام أي أصل (إليه لتجشمت) بالجيم والشين المعجمة أي لتكلفت (لقاءه) على ما فيه من المشقة، وهذا التجشم كما قاله ابن بطال هو الهجرة وكانت فرضًا قبل الفتح على كل مسلم، وفي مرسل ابن إسحق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك والله إني لأعلم أنه نبي مرسل ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، ونحوه عند الطبراني بسند ضعيف فقد خاف هرقل على نفسه أن يقتله الروم كما جرى لغيره وخفي عليه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الآتي أسلم تسلم، فلو حمل الجزاء على عمومه في الدارين لسلم لو أسلم من جميع المخلوف .. (ولو كنت عندما) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لغسلت عن قدميه) مما لعله يكون عليهما. قاله مبالغة في الخدمة أو لأزلت عنهما كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] قال الزمخشري: أي الذين يصدّون عن أمره، وقال غيره: عدي بعن لأن في المخالفة معنى التباعد والحيد، كأن المعنى الذين يحيدون عن أمره بالمخالفة والإتيان بعن أبلغ للتنبيه على هذا الغرض. وفي باب دعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس إلى الإسلام والنبوّة، ولو كنت عنده لغسلت قدميه. وفي رواية عن عبد الله بن شدّاد عن أبي سفيان لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه. وزاد فيها ولقد رأيت جبهته يتحادر عرقها من كرب الصحيفة يعني لما قرىء عليه الكتاب، وتثنية قدميه رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر والأصيلي. وفي رواية قدمه بالإفراد. قال أبو سفيان: (ثم دعا) هرقل (بكتاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي من وكّل ذلك إليه، ولهذا عدي إلى الكتاب بالباء كذا قرره في الفتح. وقال العيني: الأحسن أن يقال: ثم دعا من أتى بكتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وجوز زيادة الباء، أي دعا الكتاب على سبيل المجاز أو ضمن دعا معنى طلب (الذي بعث به دحية) بكسر الدال وفتحها ورفع التاء على الفاعلية ابن خليفة الكلبي، ولأبوي ذر والوقت عن المستملي وابن عساكر بعث به مع دحية أي بعثه عليه الصلاة والسلام معه، وكان في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية (إلى عظيم) أهل (بصرى) بضم الموحدة مقصورًا مدينة حوران أي أميرها الحرث بن أبي شمر الغساني. (فدفعه إلى هرقل) فيه مجاز لأنه أرسل به إليه صحبة عديّ بن حاتم كما في رواية ابن السكن في الصحابة، وكان وصوله إليه كما قاله الواقدي وصوّبه الحافظ ابن حجر في سنة سبع (فقرأه) هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره، وفي مرسل محمد بن كعب القرظيّ عند الواقدي في هذه القصة فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فقرأه (فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) فيه استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا. فإن قلت: قد قدم سليمان اسمه على البسملة، أجيب: أنه إنما ابتدأ بالبسملة وكتب اسمه عنوانًا بعد ختمه لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه المعهود، ولذلك قالت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. فالتقديم واقع في حكاية الحال. (من محمد عبد الله ورسوله) وصف نفسه الشريفة بالعبودية تعريضًا لبطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله. وللأصيلي وابن عساكر من محمد بن عبد الله ورسول الله (إلى هرقل عظيم) أهل (الروم) أي المعظم عندهم ووصفه بذلك لمصلحة التأليف ولم يصفه بالأمرة ولا الملك لكونه معزولاً بحكم الإسلام، وقوله: عظيم بالجر بدل من سابقه، ويجوز الرفع على القطع والنصب على الاختصاص وذكر المدائني أن القارىء لما قرأ من محمد رسول الله غضب أخو هرقل واجتذب الكتاب فقال له هرقل: ما لك؟ فقال: لأنه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم. قال: إنك لضعيف الرأي أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه ولقد صدق أنا صاحب الروم والله مالكي ومالكه. (سلام) بالتنكير، وعند المؤلف في الاستئذان السلام (على من اتبع الهدى) أي الرشاد على حد قول موسى وهارون لفرعون: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، والظاهر أنه من جملة ما أُمرا به أن يقولاه، ومعناه سلم من عذاب الله من أسلم فليس المراد به التحية وإن كان اللفظ يُشعِر به لأنه لم يسلم، فليس هو ممن اتبع الهدى. (أما بعد) بالبناء على الضم لقطعه عن الإضافة المنوية لفظًا، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين. قال في الفتح: واختلف في أول من قالها فقيل داود، وقيل يعرب بن قحطان، وقيل كعب بن لؤي، وقيل قس بن ساعدة، وقيل سحبان. وفي خمس غرائب مالك للدارقطني أن يعقوب عليه السلام أول من قالها، فإن ثبت وقلنا إن قحطان من ذرية إسماعيل فيعقوب أوّل من قالها مطلقًا، وإن قلنا إن قحطان قبل إبراهيم فيعرب أوّل من قالها. (فإني أدعوك بدعاية الإسلام). بكسر الدال المهملة، ولمسلم كالمؤلف في الجهاد بداعية الإسلام أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله، والباء بمعنى إلى، أي أدعوك إلى الإسلام. (أسلم) بكسر اللام (تسلم) بفتحها (يؤتك الله أجرك مرتين) بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة جواب ثانٍ له أيضًا، أو بدل منه، وإعطاء الأجر مرتين لكونه مؤمنًا بنبيّه. ثم آمن بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو من جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه. وقوله: أسلم تسلم فيه غاية الاختصار ونهاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من الجناس الاشتقاقي، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد، وعند المؤلف في الجهاد أسلم تسلم وأسلم يؤتك بتكرار أسلم مع زيادة الواو في الثانية، فيكون الأمر الأوّل للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه على حدّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] قاله في الفتح، وعورض بأن الآية في حق المنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا نفاقًا آمنوا إخلاصًا. وأجيب بأنه قول مجاهد. وقال ابن عباس في مؤمني أهل الكتاب، وقال جماعة من المفسّرين: خطاب للمؤمنين، وتأويل آمنوا بالله أقيمواودوموا واثبتوا على أيمانكم. (فإن توليت) أي أعرضت عن الإسلام (فإن عليك) مع إثمك (إثم اليريسين) بمثناتين تحتيتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة بينهما راء مكسورة ثم سين مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم نون، جمع يريس على وزن كريم. وفي رواية الأريسين بقلب المثناة الأولى همزة وفي أخرى اليريسيين بتشديد الياء بعد السين جمع يريسيّ وهي التي في الفرع كأصله عن الأربعة، والرابعة وهي للأصيلي كما في اليونينية الأريسيين بتشديد الياء بعد السين كذلك، إلا أنه بالهمزة في أوّله موضع الياء، والمعنى أنه إذا كان عليه إثم الاتباع بسبب اتباعهم له على استمرار الكفر، فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى. فإن قلت: هذا معارض بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أجيب بأن وزر الإثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين، جهة فعله وجهة تسببه. والأريسيون الأكارون أي الفلاحون والزراعون، أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك. ونبّه بهم على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، وأسرع انقيادًا فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا. وقال أبو عبيد المراد بالفلاحين أهل مملكته لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أم بغيره، وعند كراع هم الأجراء. وعند الليث العشارون يعني أهل المكس. وعند أبي عبيدة الخدم والخول يعني لصده إياهم عن الدين. كما قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} [الأحزاب: 67] الآية. والأوّل أظهر. وقيل: كان أهل السواد أهل فلاحة وكانوًا مجوسًا، وأهل الروم أهل صناعة، فاعلموا بأنهم وإن كانوا أهل كتاب بأن عليهم إن لم يؤمنوا من الإثم مثل إثم المجوس الذين لا كتاب لهم، وفي قوله: فإن توليت استعارة تبعية لأن حقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازًا في الإعراض عن الشيء. (ويا أهل الكتاب) كذا في رواية عبدوس والنسفيّ والقابسي، وهو الذي في اليونينية بالواو عطفًا على قوله أدعوك أي أدعوك بدعاية الإسلام وأدعوك بقوله تعالى أو أتلو عليك أو أقرأ عليك أهل الكتاب، وعلى هذا التقدير فلا تكون زائدة في التلاوة لأن الواو إنما دخلت على محذوف ولا محذور فيه. قإن قلت: يلزم عليه حذف المعطوف وبقاء حرف العطف وهو ممتنع أجيب: بأنما ذاك إذا حذف المعطوف وجميع متعلقاته، أما إذا بقي من اللفظ شيء هو معمول للمحذوف فلا نسلم امتناع ذلك كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9]، أي وأخلصوا الإيمان. وكقوله: وزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن وعلفتها تبنًا وماءً باردًا أي وسقيتها إلى غير ذلك. فإن قلت: العطف مشكل لأنه يقتضي تقييد التلاوة بتوليه وليس كذلك، أجيب: بأنه إنما هو معطوف على مجموع الجملة المشتملة على الشرط والجزاء لا على الجزاء فقط، وقيل: إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرد التلاوة بل أراد مخاطبتهم بذلك، وحينئذ فلا إشكال، وعورض بأن العلماء استدلوا بهذا الحديث على جواز كتابة الآية والآيتين إلى أرض العدو، ولولا أن المراد الآية لما صح الاستدلال، وهم أقوم وأعرف. وبأنه لو لم يرد الآية لقال عليه الصلاة والسلام فإن توليتم، وفي الحديث: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، لكن يمكن الانفصال عن هذا الأخير بأنه من باب الالتفات. وفي رواية الأصيلي وأبي ذر كما قاله عياض يا أهل الكتاب بإسقاط الواو، فيكون بيانًا لقوله بدعاية الإسلام. وقوله: يا أهل الكتاب يعمّ أهل الكتابين. (تعالوا) بفتح اللام (إلى كلمة سواء) أي مستوية (بيننا وبينكم) لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وتفسير الكلمة (أن لا نعبد إلاّ الله) أي نوحده بالعبادة ونخلص له فيها (ولا نشرك به شيئًا) ولا نجعل غيره شريكًا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً لأن يعبد (ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله). فلا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل، لأن كلاً منهم بعضنا بشر مثلنا. روي أنه لما نزلت {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمونفتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. قال: (فإن تولوا) عن التوحيد (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل، وقد قيل: إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لما نزلت لأنها نزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: بل نزلت في اليهود، وجوّز بعضهم نزولها مرتين. وقيل، فيما حكاه السهيلي: إن هرقل وضع هذا الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له وإنهم لم يزالوا يتوارثونه كابرًا عن كابر في أعز مكانٍ. وحكي أن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قلج صندوقًا مصفحًا بالذهب، واستخرج منه مقلمة من ذهب فأخرج منها كتابًا زالت أكثر حروفه فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا فنحن نحفظه. (قال أبو سفيان فلما قال) هرقل (ما قال) أي الذي قاله في السؤال والجواب، (وفرغ من قراءة الكتاب) النبوي (كثر عنده الصخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحتين أي اللغط كما في مسلم، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة، (وارتفعت الأصوات) بذلك (وأخرجنا) بضم الهمزة وكسر الراء (فقلت لأصحابي حين أخرجنا) وعند المؤلف في الجهاد حين خلوت بهم، والله (لقد أمر) بفتح أوله مقصورًا وكسر ثانيه أي كبر وعظم (أمر ابن أبي كبشة) بسكون الميم أي شأنه، وكبشة بفتح الكاف وسكون الموحدة. قال ابن جني: اسم مرتجل ليس بمؤنث الكبش، لأن مؤنث الكبش من غير لفظه يريد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى فيما قاله ابن ماكولا وغيره، وعند ابن بكير أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة، فكنّي بها أو هو والد حليمة مرضعته أو ذلك نسبة إلى جد جده وهب لأن أمه آمنة بنت وهب وأم جد وهب قيلة بنت أبي كبشة، أو لجد جده عبد المطلب لأمه، أو هو رجل من خزاعة اسمه وجز بواو مفتوحة فجيم ساكنة فزاي، ابن غالب خالف قريشًا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة. (إنه يخافه). بكسر الهمزة على الاستئناف. وجوّز العيني فتحها قال: وإن كان على ضعف على أنه مفعول من أجله، والمعنى عظم عليه الصلاة والسلام لأجل أنه يخافه (ملك بني الأصفر) وهم الروم لأن جدهم روم بن عيص بن إسحق تزوّج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد، فقيل له الأصفر، أو لأن جدته سارة حفّته بالذهب. وقيل غير ذلك. قال أبو سفيان (فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام) فأبرزت ذلك اليقين، (وكان ابن الناطور) بالمهملة أي حافظ البستان وهو لفظ عجمي تكلمت به العرب، وفي رواية الحموي الناظور بالمعجمة. وفي رواية الليث عن يونس بن ناطورا بزيادة ألف في آخره والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري خلاقًا لمن توهم أنها معلقة أو مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله وذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة. وقوله (صاحب إيلياء) بكسر الهمزة واللام بينهما مثناة تحتية مع المد على الأشهر وهي بيت المقدس أي أميرها، وصاحب منصوب في رواية أبي ذر على الاختصاص أو الحال لا خبر كان لأن خبرها إما أسقفًا أو يحدث، وجوّزه البدر الدماميني بأنه لا مانع من تعدد الخبر. وفي رواية غير أبي ذر صاحب بالرفع صفة لابن الناطور، ورده الزركشي بأنه معرفة. وصاحب لا يتعرف بالإضافة لأنها في تقدير الانفصال. وجوّزه الكرماني لأن الإضافة معنوية. قال البرماوي وهو الظاهر. وقال البدر الدماميني: وهو أي قول الزركشي وهم، فقد قال سيبويه: تقول مررت بعبد الله ضاربك، كما تقول مررت بعبد الله صاحبك أي المعروف بضربك. قال الرضي: فإذا قصدت هذا المعنى لم يعمل اسم الفاعل في محل المجرور به نصبًا كما في صاحبك، وإنكان أصله اسم فاعل من صحب يصحب، بل نقدره كأنه جامد، وأعربه بعضهم خبر مبتدأ محذوف أي هو صاحب إيلياء. (وهرقل) بفتح اللام مجرور عطفًا على إيلياء أي صاحب إيلياء وصاحب هرقل، وأطلق عليه الصحبة إما بمعنى التبع وإما بمعنى الصداقة، فوقع استعمال صاحب في المجاز بالنسبة لامرية إيلياء، وفي الحقيقة بالنسبة إلى هرقل. (أسقف) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول من الثلاثي المزيد وهي رواية المستملي والحموي، وعزاها في الفرع كأصله للكشميهني فقط، وعند الجواليقي. وهي في الفرع كأصله للقابسي فقط أسقفًا بضم الهمزة وسكون السين وضم القاف وتخفيف الفاء، وعند القابسي أسقفًا كذلك إلا أنه بتشديد الفاء. وعزاها في الفرع كأصله لابن عساكر فقط. قال النووي وهو الأشهر، وعند الكشميهني وهي في اليونينية نسخة بغير رقم سقف بضم أوّله مبنيًّا للمفعول من التسقيف. ولأبي ذر والأصيلي عن المروزي سقف بالتخفيف مبنيًّا للمفعول، وللجرجاني سقفًا بضم السين وكسر القاف وتشديد الفاء، ولأبي ذر عن المستملي سقفًّا بضم السين والقاف وتشديد الفاء أي مقدّمًا. (على نصارى الشام) لكونه رئيس دينهم أو عالمهم أو هو قيم شريعتهم، وهو دون القاضي أو هو فوق القسيس ودون المطران أو الملك المتخاشع في مشيته، الجمع أساقفة وأساقف (يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء) عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم في سنة عمرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحديبية (أصبح خبيث النفس) رديئها غير طيبها مما حل به من الهم وعبّر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده اتساعًا لغلبة أوصاف الجسد على الروح، وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر أصبح يومًا خبيث النفس (فقال) له (بعض بطارقته) بفتح الموحدة جمع بطريق بكسرها أي قواده وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم، (قد استنكرنا هيئتك) أي سمتك وحالتك لكونها مخالفة لسائر الأيام (قال ابن الناطور) ولابن عساكر الناظور بالظاء المعجمة (وكان) عطف على مقدر تقديره قال ابن الناطور: كان (هرقل) عالمًا وكان (حزاء) فلما حذف المعطوف عليه أظهر هرقل في المعطوف، وحزاء منصوب لأنه خبر كان، وهو بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منوّنة أي كاهنًا (ينظر في النجوم) خير ثانٍ لكان. إن قلنا إنه ينظر في الأمرين، أو هو تفسير لحزاء، لأن الكهانة تؤخذ تارة من ألفاظ الشياطين وتارة من أحكام النجوم، وكان هرقل علم ذلك بمقتضى حساب المنجمين الزاعمين بأن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثلاثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأول للمولد النبوي في القرآن المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل عليه السلام بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرّت. فتح مكة وظهور الإسلام، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى. وليس المراد بذكر هذا هنا تقوية قول المنجمين، بل المراد البشارات به عليه الصلاة والسلام على لسان كل فريق من إنسي وجني، والجملة السابقة من قوله قال ابن الناطور اعتراض بين سؤال بعض البطارقة وجواب هرقل إياهم إلى قوله (فقال) هرقل (لهم) أي لبعض بطارقته (حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان) بفتح الميم وكسر اللام، ولغير الكشميهني ملك بالضم ثم الإسكان (قد ظهر) أي غلب، وهو كما قال لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إذ صالح الكفار بالحديبية وأنزل الله تعالى سورة الفتح ومقدمة الظهور ظهور (فمن يختتن من هذه الأمة) أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز. وفي رواية يونس فمن يختتن من هذه الأمم؟ (قالوا) مجيبين لاستفهامه إياهم (ليس يختتن إلا اليهود) أجابوا بمقتضى علمهم لأن اليهود كانوا بإيلياء تحت الذلة مع النصارى بخلاف العرب. (فلا يهمنّك) بضم المثناة التحتية من أهم، أي لا يقلقنك (شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك) بالهمز وقد يترك (فيقتلوا من فيهم مناليهود). وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر فليقتلوا باللام (فبينما هم) بالميم وأصله بين فأشبعت الفتحة فصار بينا ثم زيدت عليها الميم، وفي رواية الأربعة فبينما بغير ميم ومعناهما واحد وهم مبتدأ خبره (على أمرهم) مشورتهم التي كانوا فيها (أتي هرقل برجل) أي بينا هم أوقات أمرهم إذ أُتي برجل (أرسل به ملك غسان) بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة والملك هو الحرث بن أبي شمر وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، أو ماء بالمشلل ولم يسم الرجل ولا من أرسل به (يخبر عن خبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقال كما عند ابن إسحاق خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك (فلما استخبره هرقل) وأخبره بذلك (قال) هرقل لجماعته: (اذهبوا فانظروا) إلى الرجل (أمختتن هو) بهمزة الاستفهام وفتح المثناة الفوقية الأولى وكسر الثانية (أم لا فنظروا إليه). وعند ابن إسحاق فجرّدوه فإذا هو مختتن (فحدثوه) أي هرقل (أنه مختتن) بفتح الفوقية الأولى وكسر الثانية. (وسأله عن العرب) هل يختتنون (فقال) أي الرجل (هم يختتنون). وفي رواية الأصيلي وابن عساكر في نسخة مختتنون بالميم قال العيني كابن حجر والأول أفيد وأشمل. (فقال هرقل: هذا) الذي نظرته في النجوم (ملك هذه الأمة) أي العرب، (قد ظهر) بضم الميم وسكون اللام وللقابسي ملك بالفتح ثم الكسر. فاسم الإشارة للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو مبتدأ خبره ملك هذه الأمة، وقد ظهر حال، ولأبي ذر عن الكشميهني وحده: يملك فعل مضارع هذه الأمة بالنصب على المفعولية لكنه في فرع اليونينية كالأصل ضبب على الياء ثم ضرب على الضبة بالحمرة خافيًا. وقال عياض: أظنها أي الياء ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهها العيني كغيره بأن قوله هذا مبتدأ ويملك جملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبره، وقوله هذه الأمة مفعول يملك، وقوله قد ظهر جملة وقعت حالاً. قال: وقد علم أن الماضي المثبت إذا وقع حالاً لا بدّ أن تكون فيه ظاهرة أو مقدّرة. وقال غيره: قوله قد ظهر جملة مستأنفة لا في موضع الصفة ولا الخبر، ويجوز أن يكون يملك صفة أي هذا الرجل يملك هذه الأمة، وقد جاء النعت بعد النعت ثم حذف المنعوت انتهى. (ثم كتب هرقل إلى صاحب له) يسمى ضغاطر الأسقف (برومية) بالتخفيف أي فيها، وفي رواية ابن عساكر بالرومية وهي مدينة رياسة الروم، وقيل: إن دور سورها أربعة وعشرون ميلاً: (وكان نظيره)، وفي رواية ابن عساكر والأصيلي وكان هرقل نظيره (في العلم، وسار هرقل إلى حمص) مجرور بالفتحة لأنه غير منصرف للعلمية والتأنيث لا للعلمية والعجمة على الصحيح لأنها لا تمنع صرف الثلاثي، وجوّز بعضهم صرفه كعدمه نحو هند وغيره من الثلاثي الساكن الوسط، ولم يجعل للعجمة أثرًا وإنما سار هرقل إلى حمص لأنها دار ملكه (فلم يرم) هرقل (حمص) بفتح المثناة التحتية وكسر الراء، أي لم يبرح منها أو لم يصل إليها (حتى أتاه كتاب من صاحبه) ضغاطر (يوافق رأي هرقل على خروج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ظهوره (وأنه نبي) بفتح الهمزة عطف على خروج، وهذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرّا بنبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن هرقل لم يستمر على ذلك ولم يعمل بمقتضاه بل شح بملكه ورغب في الرئاسة فآثرهما على الإسلام بخلاف صاحبه ضغاطر: فإنه أظهر إسلامه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه (فأذن) بالقصر من الإذن، وللمستملي وغيره فآذن بالمد أي أعلم (هرقل لعظماء الروم في دسكرة) بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة وفتح الكاف والراء كائنة (له بحمص) أي فيها، والدسكرة القصر حوله البيوت، (ثم أمر بأبوابها) أي الدسكرة (فغلقت) بتشديد اللام لأبي ذر وكأنه دخلها ثم أغلقها وفتح أبواب البيوت التي حولها وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها، (ثم اطلع) عليهم من علو خوف أن ينكروا مقالته فيقتلوه ثم خاطبهم (فقال: يا معشر الروم هل لكم) رغبة (في الفلاح والرشد) بالضم ثم السكون أو بفتحتين خلاف الغي،(وأن يثبث) بفتح الهمزة وهي مصدرية عطفًا على قوله في الفلاح، أي وهل لكم في ثبوت (ملككم فتبايعوا) بمثناة فوقية مضمومة ثم موحدة وبعد الألف مثناة تحتية منصوب بحذف النون بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخة بفرع اليونينية كأصلها فبايعوا بإسقاط المثناة قبل الموحدة، وفي رواية الأصيلي نبايع بنون الجمع ثم موحدة، وفي أخرى لأبي الوقت نتابع بنون الجمع أيضًا ثم مثناة فوقية فألف فموحدة، ولأبي ذر عن الكشميهني فتتابعوا بمثناتين فوقيتين وبعد الألف موحدة، فالثلاثة الأول من البيعة والتي بعدها من الاتباع كالرواية الأخرى لابن عساكر في نسخة فنتبع (هذا النبي)، وفي اليونينية بين الأسطر من غير رقم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر لهذا باللام، وإنما قال هذا لما عرفه من الكتب السالفة أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك. ونقل أن في التوراة ونبيًّا مثلك أرسله أيّ إنسان لم يقبل كلامي الذي يؤدّيه عنّي فإني أهلكه (فحاصوا) بمهملتين أي نفروا (حيصة حمر الوحش) أي كحيصتها (إلى الأبواب) المعهودة (فوجدوها قد غلقت) بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة، وشبه نفرتهم وجفلهم مما قال لهم من أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بنفرة حمر الوحش لأنها أشد نفرة من سائر الحيوانات، (فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس) بهمزة ثم مثناة تحتية جملة حالية بتقدير قد، وفي رواية الأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني يئس بتقديم الياء على الهمزة وهما بمعنى والأوّل مقلوب من الثاني أي قنط، (من الإيمان) أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شح بملكه: وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويسلم ويسلمون. (قال: ردّوهم عليّ وقال) لهم (إنّي قلت مقالتي آنفًا) بالمد مع كسر النون، وقد تقصر، وهو نصب على الظرفية. أي. قلت مقالتي هذه الساعة حال كوني (اختبر). أي امتحن (بها شدتكم) أي رسوخكم (على دينكم فقد رأيت) شدتكم، فحذف المفعول للعلم به مما سبق. وعند المؤلف في التفسير فقد رأيت منكم الذي أحببت. (فسجدوا له) حقيقة على عادتهم لملوكهم أو قبلوا الأرض بين يديه لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود، (ورضوا عنه فكان ذلك آخر) بالنصب خبر كان (شأن هرقل) فيما يتعلق بهذه القصة خاصة، أو فيما يتعلق بالإيمان، فإنه قد وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة وتبوك ومحاربته للمسلمين، وهذا يدل ظاهره على استمراره على الكفر، ولكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لمملكته وخوفًا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني مسلم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بل هو على نصرانيته الحديث. (رواه) أي حديث هرقل، وفي رواية ابن عساكر، ورواه بواو العطف، وفي رواية قال محمد أي البخاري رواه (صالح بن كيسان) بفتح الكاف أبو محمد أو أبو الحرث الغفاري بكسر الغين المعجمة مخفف الفاء المدني المتوفى بعد الأربعين ومائة أو سنة خمس وأربعين ومائة عن مائة سنة ونيف وستين سنة. (و) رواه أيضًا (يونس) بن يزيد الأيلي، (و) رواه (معمر) بفتح الميمين بينهما عين ساكنة ابن راشد الثلاثة (عن الزهري). فالأول أخرجه المصنف في الجهاد من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح عن الزهري، لكنه انتهى عند قول أبي سفيان حتى أدخل الله عليّ الإسلام وكذا مسلم، والثاني أيضًا بهذا الإسناد في الجهاد مختصرًا من طريق الليث، وفي الاستئذان أيضًا مختصرًا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه، والثالث أيضًا بتمامه في التفسير. فالأحاديث الثلاثة عند المصنف عن غير أبي اليمان والزهري إنما رواها لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، وفي هذا الحديث من لطائف الإسناد رواية حمصي عن حمصي عن شامي عن مدني، وأخرج متنه المؤلف هنا. وفي الجهاد والتفسير في موضعين، وفي الشهادات والجزيةوالأدب في موضعين، وفي الإيمان والعلم والأحكام والمغازي وخبر الواحد والاستئذان، وأخرجه مسلم في المغازي، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، والنسائي في التفسير. ولم يخرجه ابن ماجة ووجه مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب أنه مشتمل على ذكر جمل من أوصاف من يوحى إليه، والباب في كيفية بدء الوحي، وأيضًا فإنّ قصة هرقل متضمنة كيفية حاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ابتداء الأمر. ولما فرغ المؤلف من باب الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع يذكر المقاصد الدينية وبدأ منها بالإيمان لأنه ملاك الأمر كله، لأن الباقي مبنيّ عليه ومشروط به وهو أوّل واجب على المكلف فقال مبتدئًا: (بسم الله الرحمن الرحيم) كأكثر كتب هذا الجامع تبركًا وزيادة في الاعتناء بالتمسك بالسُّنَّة، واختلفت الروايات في تقديمها هنا على كتاب أو تأخيرها عنه، ولكلٍّ وجه ووجه الثاني بأنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة ووجه الأوّل ظاهر. بسم الله الرحمن الرحيم 2 - كتاب الإيمان بكسر الهمزة وهو لغة التصديق، وهو كما قاله التفتازاني إذعان لحكم المخبر وقبوله وجعله صادقًا، إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به أمنه التكذيب والمخالفة، يعدّى باللام كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي مصدق لنا، وبالباء كما في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الإيمان أن تؤمن بالله". الحديث. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو الخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرَّح به الإمام الغزالي. والكتاب من الكتب وهو الجمع والضم، ومن ثم استعمل جامعًا للأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى الحروف المكتوبة حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز. ولم يقل في الأول كتاب بدء الوحي لأنه كالمقدمة، ومن ثم بدأ به لأن من شأن المقدمة كونها أمام المراد، وأيضًا فإن من الوحي عرف الإيمان وغيره. 1 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ» وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} - {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} - {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} - {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} - {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَوْلُهُ: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ إِنَّ لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ. فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. وَقَالَ مُعَاذٌ اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {شَرَعَ لَكُمْ ... } أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: سَبِيلاً وَسُنَّةً. هذا (باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث الموصول الآتي تامًّا إن شاء الله تعالى. (بُنيّ الإسلام على خمس). وفي فرع اليونينية كهي، كتاب الإيمان، وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي أخرى باب الإيمان وقول النبي، والأول أصح لأن ذكر الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته كما لا يخفى، وسقط لفظ باب عند الأصيلي. والإسلام لغة الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق كما سبق، قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين} [الذاريات: 35، 36] فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكمًا فهما متحدان في الصدق وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإيمان تصديق القلب، ومفهوم الإسلام أعمال الجوارح، وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا. ومن أثبت التغاير فقد يقال له ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن، فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر فقد ظهر بطلان قوله، فإن قيل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. صريح في تحقيق الإسلام بدون الإيمان. أجيب بأن المراد أنهم انقادوا في الظاهر اهـ. (وهو) أي الإيمان المبوَّب عليه عند المصنف كابن عيينة والثوري وابن جريح ومجاهد ومالك بن أنس وغيرهم من سلف الأمة وخنفها من المتكلمين والمحدثين: (قول) باللسان وهو النطق بالشهادتين. (وفعل)، ولأبي ذر عن الكشميهني وعمل بدل فعل، وهو أعمّ من عمل القلب والجوارح، لتدخل الاعتقادات والعبادات. وهو موافق لقول السلف اعتقاد بالقلبونطق باللسان وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط كماله. وقال المتأخرون ومنهم الأشعرية وأكثر الأئمة كالقاضي ووافقهم ابن الراوندي من المعتزلة هو تصديق الرسول عليه السلام بما علم مجيئه ضرورة، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً تصديقًا جازمًا مطلقًا، سواء كان لدليل أم لا، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22]. وقال عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ ثبّث قلبي على دينك". وإذا ثبت أنه فعل القلب وجب أن يكون عبارة عن مجرد التصديق، وقد خرج بقيد الضرورة ما لم يعلم بالضرورة أنه جاء به كالاجتهادات، وبالجازم التصديق الظني، فإنه غير كافِ. وقيل هو المعرفة، فقوم بالله وهو مذهب جهم بن صفوان، وقوم بالله وبما جاء به الرسول إجمالاً وهو منقول عن بعض الفقهاء. وقال الحنفية التصديق بالجنان والإقرار باللسان، قال العلاّمة التفتازاني: إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه. فإن قلت: التصديق قد يذهل عنه كما في حالة النوم والغفلة، أجيب: بأن التصديق باقٍ في القلب والذهول إنما هو عن حصوله. وذهب جمهور المحققين إلى أنه هو التصديق بالقلب وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، كما أن تصديق القلب أمر باطني لا بدّ له من علامة اهـ. وقال النووي: اتفق أهل السُّنَّة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا عن الشكوك ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً بل يخلد في النار، إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكّن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنًا بالاعتقاد من غير لفظ اهـ. وقال الكرامية: انطق بكلمتي الشهادة فقط، وقال قوم العمل. وذهب الخوارج والعلاف وعبد الجبار إلى أنه الطاعة بأسرها فرضًا كانت أو نفلاً. وذهب الجبائي وابنه وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفترضه من الأفعال والتروك دون النوافل. وقال الباقون منهم العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينه وبين قول السلف السالف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في الكمال، والمعتزلة جعلوها شرطًا في الصحة فهذه ثمانية أقوال، خمسة منها بسيطة والأول والثامن مركب ثلاثي والرابع مركب ثنائي، ووجه الحصر أن الإيمان لا يخرج بإجماع المسلمين عن فعل القلب وفعل الجوارح، فهو حينئذ إما فعل القلب فقط وهو المعرفة على الوجهين أو التصديق المذكور، وإما فعل الجوارح فقط وهو فعل اللسان وهو الكلمتان، أو غير فعل اللسان وهو العمل بالطاعة المطلقة أو المفترضة. وإما فعل القلب والجوارح معًا، والجارحة إما اللسان وحده أو جميع الجوارح، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فإذا أقرّ حكمنا بإيمانه اتفاقًا، نعم النزاع واقع في نفس الإيمان والكمال فإنه لا بدّ فيه من الثلاثة إجماعًا فمن أقرّ بالكلمة جرت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره، إلا إن اقترن به فعل كالسجود لصنم، فإن كان غير دال عليه كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبت المعتزلة الواسطة فقالوا الفاسق لا مؤمن ولا كافر. (و) إذا تقرر هذا فاعلم أن الإيمان (يزيد) بالطاعة (وينقص) بالمعصية كما عند المؤلف وغيره، وأخرجه أبو نعيم كذا بهذا اللفظ في ترجمة الشافعي من الحلية، وهو عند الحاكم بلفظ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وكذا نقله اللالكائي في كتاب السُّنة عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، بل قال به من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعمارة، وأبو هريرة، وحذيفة، وعائشة وغيرهم، ومن التابعين كعب الأحبار، وعروة، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. وروىاللالكائي أيضًا بسند صحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وأما توقف مالك رحمه الله عن القول بنقصانه فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج، ثم استدل المؤلف على زيادة الإيمان بثمان آيات من القرآن العظيم مصرّحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة فقال: (قال) وفي رواية الأصيلي وقال (الله تعالى) بالواو في سورة الفتح، ولأبي ذر: عز وجل (ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم) وقال تعالى في الكهف: (وزدناهم هدى) أي بالتوفيق والتثبيت وهذه الآية ساقطة في رواية ابن عساكر كما في فرع اليونينية كهي، والآية الثالثة في مريم: (ويزيد الله) بالواو، وفي رواية ابن عساكر يزيد الله، وفي أخرى للأصيلي، وقال: ويزيد الله (الذين اهتدوا هدى) أي بتوفيقه. وقال في القتال وفي رواية ابن عساكر والأصيلي، وقوله وفي رواية بإسقاطهما والابتداء بقوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى) بالتوفيق، (وآتاهم تقواهم). أي بيَّن لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها، وقال تعالى في المدثر: (ويزداد) ولابن عساكر والأصيلي، وقوله: ويزداد (الذين آمنوا إيمانًا) بتصديقهم بأصحاب النار المذكورين في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} الآية [المدّثر: 31]. (وقوله) تعالى في براءة (أيّكم زادته هذه) أي السورة (إيمانًا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا) بزيادة العلم الحاصل من تدبرها وبانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم. (وقوله جل ذكره) في آل عمران (فاخشوهم فزادهم إيمانًا) لعدم التفاتهم إلى من ثبطهم عن قتال المشركين بل ثبت يقينهم بالله وازداد إيمانهم، قال البيضاوي وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. (وقوله تعالى) في الأحزاب (وما زادهم) أي لما رأوا الخطب أو البلاء في قصة الأحزاب، وسقطت واو وما للأصيلي فقال: ما زادهم (إلا إيمانًا) بالله ومواعيده، (وتسليمًا) لأوامره ومقاديره. فإن قلت: الإيمان هو التصديق بالله وبرسوله والتصديق شيء واحد لا يتجزأ فلا يتصور كماله تارة ونقصه أخرى، أجيب بأن قبوله الزيادة والنقص ظاهر على تقدير دخول القول والفعل فيه. وفي الشاهد شاهد بذلك، فإن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ومن ثم كان إيمان الصدّيقين أقوى من إيمان غيرهم، وهذا مبني على ما ذهب إليه المحققون من الأشاعرة من أن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته التي هي الأعمال ونقصانها، وبهذا يحصل التوفيق بين ظواهر النصوص الدالّة على الزيادة وأقاويل السلف بذلك، وبين أصل وضعه اللغوي وما عليه أكثر المتكلمين. نعم يزيد وينقص قوة وضعفًا إجمالاً وتفصيلاً أو تعدّدًا بحسب تعدد المؤمن به. وارتضاه النووي. وعزاه التفتازاني في شرح عقائد النسفيّ لبعض المحققين، وقال في المواقف: إنه الحق وأنكر ذلك أكثر المتكلمين والحنفية، لأنه متى قبل ذلك كان شكًّا وكفرًا، وأجابوا عن الآيات السابقة ونحوها بما نقلوه عن إمامهم أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص. وحاصله أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به، وهذا لا يتصور في غير عصره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه نظر، لأن الاطلاع على تفاصيل الفرائض يمكن في غير عصره عليه السلام، والإيمان واجب إجمالاً فيما علم إجمالاً، وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، ولا خفاء في أن التفصيلي أزيد اهـ. ثم استدل المؤلف على قبول الزيادة أيضًا بقوله: (والحب في الله) وهو بالرفع مبتدأ (والبغض في الله) عطف عليه. وقوله: (من الأيمان) خبر المبتدأ وهذا لفظ حديث رواه أبو داود من حديث أبي أمامة لأن الحب والبغض يتفاوتان. (وكتب عمر بن عبد العزيز) بن مروان الأموي القرشي أحد الخلفاء الراشدين المتوفى بدير سمعان بحمص يومالجمعة لخمس ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة، (إلى عديّ بن عديّ) بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما ابن عمرة بفتح العين الكندي التابعي المتوفى سنة عشرين ومائة، (ان للإيمان) بكسر همزة ان في اليونينية (فرائض) بالنصب اسم ان مؤخر أي أعمالاً مفروضة (وشرائع) أي عقائد دينية (وحدودًا) أي منهيّات ممنوعة (وسُننًا) أي مندوبات، وفي رواية ابن عساكر أن الإيمان فرائض بالرفع خبر ان وما بعده معطوف عليه، ووقع للجرجاني فرائع وليس بشيء. (فمن استكملها) أي الفرائض وما معها فقد (استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) فيه إشارة إلى قبول الإيمان الزيادة والنقصان. ومن ثم ذكره المؤلف هنا استشهادًا لا يقال إنه لا يدل على ذلك بل على خلافه، إذ قال للإيمان كذا وكذا، فجعل الإيمان غير الفرائض وما ذكر معها، وقال من استكملها أي الفرائض وما معها فجعل الكمال لما للإيمان لا للإيمان، لأنا نقول آخر كلامه يُشعِر بذلك حيث قال: فمن استكملها أي الفرائض وما معها استكمل الإيمان. (فإن أعش فسأبينها) أي فسأوضحها (لكم) إيضاحًا يفهمه كل أحد منكم. والمراد تفاريعها لا أصولها إذ كانت معلومة لهم على سبيل الإجمال. وأراد سأبينها لكم على سبيل التفصيل. (حتى تعملوا بها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص) وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ الحاجة لم تتحقّق، أو أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها ولكنه استظهر وبالغ في نصحهم وتنبيههم على المقصود وعرَّفهم أقسام الإيمان مجملاً، وأنه سيذكرها مفصلاً إذا تفرع لها فقد كان مشغولاً بالأهم، وهو من تعاليق المؤلف المجزومة وهي محكوم بصحتها. ووصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيسى بن عاصم، قال: حدّثني عديّ بن عديّ فذكره. (وقال إبراهيم) الخليل زاد الأصيلي في روايته كما في فرع اليونينية كهي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد عاش فيما روي مائة سنة وخمسًا وسبعين سنة أو مائتي سنة ودفن بحبرون بالحاء المهملة: (ولكن ليطمئن قلبي) أي ليزداد بصيرة وسكونًا بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال، فإن عين اليقين فيه طمأنينة ليست في علم اليقين ففيه دلالة على قبول التصديق اليقيني للزيادة، وعند ابن جرير بسند صحيح إلى سعيد بن جبير أي يزداد يقيني. وعن مجاهد لأزداد إيمانًا إلى إيماني. لا يقال كان المناسب أن ذكر المؤلف هذه الآية عند الآيات السابقة، لأنّا نقول إن هاتيك دلالتها على الزيادة صريحة بخلاف هذه فلذا أخّرها إشعارًا بالتفاوت. (وقال معاذ) بضم الميم والذال المعجمة وللأصيلي في روايته، وقال معاذ بن جبل كما في فرع اليونينية كهي ابن عمرو الخزرجي الأنصاري المتوفى سنة ثمانية عشر، وله في البخاري ستة أحاديث للأسود بن هلال. (اجلس بنا) بهمزة وصل (نؤمن) بالجزم (ساعة) أي نزداد إيمانًا لأن معاذًا كان مؤمنًا أي مؤمن، وقال النووي معناه نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدين، فإن ذلك إيمان. وقال القاضي أبو بكر بن العربي لا تتعلق فيه للزيادة لأن معاذًا إنما أراد تجديد الإيمان لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضًا، ثم يكون أبدًا مجددًا لما نظر أو فكر، وقال في الفتح متعقبًا له وما نفاه أولاً أثبته آخرًا لأن تجديد الإيمان إيمان، وهذا التعليق وصله أحمد وابن أبي شيبة كالأول بسند صحيح إلى الأسود بن هلال، قال: قال لي معاذ: اجلس فذكره، وعرف من هذا أن الأسود أبهم نفسه. (وقال ابن مسعود) عبد الله وجده غافل بالمعجمة والفاء الهذلي نسبة إلى جده هذيل بن مدركة المتوفّى بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله في البخاري خمسة وثمانون حديثًا، (اليقين الإيمان كله) أكده بكل لدلالتها كأجمع على التبعيض للإيمان إذ لا يؤكد بهما إلا ذو أجزاء يصح افتراقها حسًّا أو حكمًا، وهذا التعليق طرف من أثر. رواه الطبراني بسند صحيح وتتمته والصبر نصف الإيمان. ولفظ النصف صريح في التجزئة. (وقال ابن عمر) عبد الله وجدّهالخطاب أحد العبادلة السابق للإسلام مع أبيه أحد الستة المكثرين للرواية المتوفى سنة ثلاث أو أربع وسبعين. (لا يبلغ العبد) بالتعريف وفي رواية ابن عساكر عبد بالتنكير (حقيقة التقوى)، التي هي وقاية النفس عن الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة. (حتى يدع ما حاك) بالمهملة، والكاف الخفيفة أي اضطرب (في الصدر) ولم ينشرح له وخاف الإثم فيه. وفي بعض نسخ المغاربة ما حك بتشديد الكاف، وفي بعض نسخ العراق ما حاك بالألف والتشديد من المحاكة، حكاهما صاحب عمدة القاري والبرماوي. وقد روى مسلم معناه من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع الناس عليه. وفي أثر ابن عمر هذا إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وبعضهم لم يبلغه، فتجوز الزيادة والنقصان. (وقال مجاهد) أي ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة غير مصغر على الأشهر المخزومي مولى عبد الله بن السائب المخزومي المتوفى وهو ساجد سنة مائة في تفسير قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ} [الشورى: 13] زاد الهروي وابن عساكر من الدين أي (أوصيناك يا محمد وإياه) أي نوحًا (دينًا واحدًا) خصّ نوحًا عليه السلام لما قيل أنه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأوّل من جاء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات. لا يقال إن إياه تصحيف وقع في أصل البخاري في هذا الأثر، وإن الصواب وأنبياءه كما عند عبد بن حميد وابن المنذر وغيرهما. وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة، لأنه أجيب بأن نوحًا عليه السلام أفرد في الآية، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عطف عليه وهم داخلون فيما وصى به نوحًا في تفسير مجاهد، وكلهم مشتركون في ذلك، فذكر واحد منهم يغني عن الكل على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، وهو أولى بعود الضمير إليه في تفسير مجاهد، فليس بتصحيف بل هو صحيح، وهذا التعليق أخرجه عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح. (وقال ابن عباس) عبد الله رضي الله عنهما في تفسيره قوله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] سبيلاً أي طريقًا واضحًا وهو تفسير لمنهاجًا (وسُنّة). يقال شرع يشرع شرعًا أي سنّ، فهو تفسير لشرعة فيكون من باب اللف والنشر الغير المرتب، وسقطت الواو من وقال لابن عساكر، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح وقد وقع هنا في رواية أبي ذر وغيره باب بالتنوين، وهو ثابت في أصل عليه خط الحافظ قطب الدين الحلبي كما قال العيني أنه رآه ورأيته أنا كذلك في فرع اليونينية كهي، لكنه فيها ساقط في رواية الأصيلي وابن عساكر، وأيّده قول الكرماني أنه وقف على أصل مسموع على الفربري بحذفه، بل قال النووي: ويقع في كثير من النسخ هنا باب وهو غلط فاحش وصوابه بحذفه، ولا يصح إدخاله هنا لأنه لا يتعلق له بما نحن فيه، ولأنه ترجم لقوله عليه الصلاة والسلام: بُنِيَ الإسلام ولم يذكره قبل هذا، وإنما ذكره بعده وليس مطابقًا للترجمة. وعلى هذا فقوله: [الفرقان: 77] (دعاؤكم إيمانكم) من قول ابن عباس يشير به إلى قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} فسمي الدعاء إيمانًا والدعاء عمل، فاحتجّ به على أن الإيمان عمل وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف، حيث ينقل التفسير. وهذا التعليق وصله ابن جرير من قوله ابن عباس، وفي رواية أبي ذر لقوله تعالى {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان. 2 - باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ .