3 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

باب حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ. قَالَ «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ. قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ. فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}». فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي». فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي». فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ- وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ». قَالَ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. [الحديث أطرافه في 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982]. (حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا بواو العطف (يحيى) أبو زكريا (بن بكير) بضم الموحدة تصغير بكر القرشي المخزومي المصري المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ونسبه المؤلف لجده لشهرته به واسم أبيه عبد الله، (قال: حدّثنا الليث) بالمثلثة ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي عالم أهل مصر من تابعي التابعين، قال أبو نعيم: أدرك نيفًا وخمسين من التابعين القلقشندي المولود سنة ثلاث أو أربع وتسعين، المتوفى في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وكان حنفي المذهب فيما قاله ابن خلكان، لكن المشهور أنه مجتهد. وقد روينا عن الشافعي أنه قال: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه ضيعه قومه. وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك، (عن عقيل) بضم العين المهملة وفتح القاف مصغرًا ابن خالد بن عقيل بفتح العين، الأيليّ بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية، القرشيّ الأمويّ المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة، (عن ابن شهاب) أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدنيّ تابعيّ صغير، ونسبه المؤلف كغيره إلى جدّه الأعلى لشهرته به، (عن عروة بن الزبير) بالتصغير (عن عائشة أم الؤمنين، رضي الله عنها (أنها قالت أول ما بدىء به) بضم الموحدة وكسر الدال (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الوحي) إليه (الرؤيا الصالحة في النوم)، وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مراسيل الصحابة، فإن عائشة لم تدرك هذه القصة لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقولها قالها قال: فأخذني فغطني، فيكون قولها أول ما بدىء به حكاية ما تلفظ به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحينئذ فلا يكون من المراسيل. وقوله: من الوحي أي من أقسام الوحي، فمن للتبعيض. وقال أبو عبد الله القزاز: ليست الرؤيا من الوحي ومن لبيان الجنس. وقال الأبّي نعم هي كالوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها. وفي رواية مسلم كالمصنف في رواية معمر ويونس الصادقة وهي التي ليست فيها ضغث، وذكر النوم بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح والبيان، أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين فهو ْصفة موضحة أو لأن غيرها يسمى حلمًا، أو تخصيص دون السيئة والكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، وأهل المعاني يسمونها صفة فارقة. وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر فيما حكاه البيهقي. وحينئذ فيكون ابتداء النبوّة بالرؤيا حصل في شهر ربيع وهو شهر مولده. واحترز بقوله من الوحي عما رآه من دلائل نبوّته من غير وحي كتسليم الحجر عليه كما في مسلم، وأوّله مطلقًا ما سمعه من بحيرا الراهب كما في الترمذي بسند صحيح. (فكان) بالفاء للأصيلي ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر وفي نسخة للأصيلي، وكان أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا يرى رؤيا) بلا تنوين (إلا جاءث مثل فلق الصبح) كرؤياه دخول المسجد الحرام، ومثل نصب بمصدر محذوف، أي إلاّ جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، والمعنى أنها شبيهة له في الضياء والوضوح أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فيكون النصب على الحال، وعبر بفلق الصبح لأن شمس النبوّة قد كانت مبادىء أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها وتم نورها، والفلق: الصبح. لكنه لما كان مستعملاً في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص، والبيان إضافة العام إلى الخاص. وعن أمالي الرافعي حكاية خلاف أنه أوحي إليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء من القرآن في النوم أولاً. وقال: الأشبه أن القرآن نزل كله يقظة، ووقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه عليه الصلاة والسلام هو جبريل. ولفظه أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام هو جبريل استعلن، وإنما ابتدىء عليه الصلاة والسلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحتمل القوى البشرية، فبدىء بأوائل خصال النبوة. (ثم حبب إليه الخلاء) بالمدمصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل، وعبر بحبب المبني لما لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان كلٌّ من عند الله، أو تنبيهًا على أنه لم يكن من باعث البشر، وإنما حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق ليجد الوحي منه متمكنًا كما قيل: فصادق قلبًا خاليًا فتمكّنا. وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى فيتفجر منه ينابيع الحكمة، والخلوة: أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقًا بأن يكون قالبه ممرًّا لواردات علوم الغيب، وقلبه مقرًّا لها. وخلوته عليه الصلاة والسلام إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوّة مكتسبة. (وكان) عليه الصلاة والسلام (يخلو بغار حراء) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض، قال: وهي لغية وهو مصروف إن أُريد المكان وممنوع إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير والتأنيث والمد والقصر، وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامها في بيت فقال: حرا وقبا ذكّر وأنّثهما معًا ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى والغار نقب فيه. (فيتحنث فيه) بالحاء المهملة وآخره مثلثة، والضمير المنفصل عائد إلى مصدر يتحنث، وهو من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل تأثم وتحوّب إذا اجتنب الإثم والحوب. أو هي بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء، (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) مع أيامهن، واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة. ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهو المناسب للمقام، وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي. ورواية المصنف من طريق يونس عنه في التفسير تدل على الإدراج، والليالي نصب على الظرفية متعلق بقوله يتحنث، لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلب التعبد. وذوات نصب بالكسرة صفة الليالي، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام. وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير، ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف ومسلم جاورت بحراء شهرًا، وعند ابن إسحق أنه شهر رمضان. قال في قوت الإحياء: ولم يصح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكثر منه، نعم روى الأربعين سوار بن مصعب وهو متروك الحديث. قاله الحاكم وغيره، وأما قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] فحجة للشهر، والزيادة إتمامًا للثلاثين حيث استاك أو أكل فيها كسجود السهو فقوي تقييدها بالشهر وأنها سُنّة. نعم الأربعون ثمرة نتاج النطفة علقة فمضغة فصورة والدر في صدفه. فإن قلت: أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم؟ أجيب بأنه أوّل ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مرّ. فدلّ على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة ثم للترتيب، وأيضًا لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق وظهوره مبارك عليه وعلى أمته تأسّيًا وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم. فإن قلت: لمِ خصّ حراء بالتعبد فيه دون غيره؟ قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره، لأنه منزوٍ مجموع لتحنثه وينظر منه الكعبة المعظمة، والنظر إليها عبادة، فكان له عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة. وعند ابن إسحق أنه كان يعتكف شهر رمضان، ولم يأت التصريح بصفة تعبده عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر، (قبل أن ينزع) بفتح أوّله وكسر الزاي أي يحن ويشتاق ويرجع(إلى أهله) عياله. (ويتزود لذلك) برفع الدال في اليونينية لأبوي ذر والوقت عطفًا على يتحنث، أي يتخذ الزاد للخلوة أو التعبد. (ثم يرجع إلى خديجة) رضي الله عنها، (فيتزود لمثلها) أي لمثل الليالي وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإبهام أو إشارة إلى اختصاص التزوّد بكونه من عندها دون غيرها، وفيه: أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السُّنّة لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينقطع في الغار بالكلية، بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم ثم يخرج لتحنثه. (حتى جاءه) الأمر (الحق) وهو الوحي (وهو في غار حراء، فجاءه الملك) جبريل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وهو ابن أربعين سنة كما رواه ابن سعد. وفاء فجاءه تفسيرية كهي في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] تفصيلية أيضًا لأن المجيء تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق. (فقال) له (اقرأ) يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه وأن يكون على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد. (قال) عليه الصلاة والسلام ولأبوي ذر والوقت قلت (ما أنا بقارىء). وفي رواية ما أحسن أن أقرأ. فما نافية واسمها أنا وخبرها بقارىء وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية. وأجيب بأنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحق ماذا أقرأ؟ وبأن الأخفش جوّز دخول الباء على الخبر المثبت، قال ابن مالك في بحسبك زيد أن زيدًا مبتدأ مؤخر لأنه معرفة، وحسبك خبر مقدّم لأنه نكرة، والباء زائدة فيه. وفي مرسل عبيد بن عمير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارىء. قال السهيلي، وقال بعض المفسرين أن قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل عليه السلام حين قال له اقرأ. (قال) عليه الصلاة والسلام: (فأخذني) جبريل (فغطني) بالغين المعجمة ثم المهملة أي ضمني وعصرني، وعند الطبري فغتني بالمثناة الفوقية بدل الطاء وهو حب النفس. (حتى بلغ مني الجهد) بفتح الجيم ونصب الدال أي بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعي، فهو مفعول حذف فاعله. وفي شرح المشكاة أن المعنى على النصب أن جبريل بلغ في الجهد غايته، وتعقبه التوربشتي بأنه يعود المعنى إلى جبريل غطه حتى استفرغ قوته وجهد جهده بحيث لم تبق فيه بقية، قال: وهذا قول غير سديد فإن البنية البشرية لا تستدعي استنفاد القوة الملكية لا سيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك وداخله الرعب، وحينئذ فمن رواه بالنصب فقد وهم. وأجاب الطيبي بأن جبريل في حال الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى له بها عند سدرة المنتهى، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له بها وغطه وحينئذ فيضمحل الاستبعاد انتهى. ويروى الجهد بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه فهو فاعل بلغ. (ثم أرسلني) أي أطلقني. (فقال: اقرأ. قلت) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي فقلت: (ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد) بالفتح والنصب وبالضم والرفع كسابقه. (ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة) وهذا الغط ليفرّغه عن النظر إلى أمور الدنيا ويقبل بكنيته إلى ما يلقى إليه. وكرره للمبالغة واستدل به على أن المؤدب لا يضرب صبيًّا أكثر من ثلاث ضربات. وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولا يذكر الجهد هنا، نعم هو ثابت عنده في التفسير -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- وعدّ بعضهم هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يناقل عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله. (ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق). قال الطيبي: هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء دون مقروء، فقوله: باسم ربك حال. أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، أي قل بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يدل على أن البسملةمأمور بها في ابتداء كل قراءة. وقوله: ربك الذي خلق، وصف مناسب مُشعِر بعلية الحكم بالقراءة. والإطلاق في قوله خلق أوّلاً على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله: ({خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}) الزائد في الكرم على كل كريم، وفيه دليل للجمهور أنه أوّل ما نزل. وروى الحافظ أبو عمرو الداني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أوّل شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ}. وفي المرشد أوّل ما نزل من القرآن هذه السورة في نمط، فلما بلغ جبريل هذا الموضع {مَا لَمْ يَعْلَمْ} طوى النمط، ومن ثم قال القرّاء: إنه وقف تام. وقال: من علق، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإنسان في معنى الجمع. وخص الإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه. (فرجع بها) أي بالآيات (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى أهله حال كونه (يرجف) بضم الجيم يخفق ويضطرب، (فؤاده) قلبه أو باطنه أو غشاؤه لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمأَلوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة لأن النبوّة لا تزيك طباع البشرية كلها (فدخل) عليه الصلاة والسلام (على خديجة بنت خويلد) أم المؤمنين (رضي الله عنها) التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له (فقال) عليه الصلاة والسلام: (زمّلوني زمّلوني) بكسر الميم مع التكرار مرتين، من التزميل وهو التلفيف. وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفف، (فزملوه) بفتح الميم (حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء أي الفزع، (فقال) عليه الصلاة والسلام (لخديجة) رضي الله عنها (وأخبرها الخبر) جملة حالية (لقد) أي والله لقد (خشيت على نفسي) الموت من شدة الرعب، أو المرض، كما جزم به في بهجة النفوس أو أني لا أطيق حمل أعباء الوحي لما لقيته أوّلاً عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله وأكد باللاء وقد تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس وخوفه على نفسه الشريفة. (فقالت) له عليه الصلاة والسلام (خديجة) رضي الله عنها، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي قالت بإسقاط الفاء (كلا) نفي وإبعاد، أي لا تقل ذلك أو لا خوف عليك، (والله ما يخزيك الله أبدًا) بضم المثناة التحتية وبالخاء المعجمة الساكنة والزاي المكسورة وبالمثناة التحتية الساكنة من الخزي، أي ما يفضحك الله. ولأبي ذر عن الكشميهني ما يحزنك الله بفتح أوّله وبالحاء المهملة الساكنة والزاي المضمومة أو بضم أوّله مع كسر الزاي وبالنون من الحزن، يقال حزنه وأحزنه. (إنك) بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء، قال العلاّمة البدر الدماميني: وفصلت هذه الجملة عن الأولى لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته، وهو سؤال عن سبب خاص، فحسن التأكيد. وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك لسبب عظيم، فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل: هل سبب ذلك هو الاتّصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف كما يشير إليه كلامك، قالت: إنك (لتصل الرحم) أي القرابة، (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو الذي لا يستقل بأمره، أو الثقل بكسر المثلثة وإسكان القاف، (وتكسب المعدوم) بفتح المثناة الفوقية، أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك. وكسب يتعدى بنفسه إلى واحد نحو كسبت المال، وإلى اثنين نحو كسبت غيري المال وهذا منه. ولابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني وتكسب بضم أوّله من أكسب، أي تكسب غيرك المال المعدوم أي تتبرع به له، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، أو تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم. والرواية الأولى أصح كما قاله عياض، والرواية الثانية قال الخطابي: الصواب العدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. وأجيب بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب الأزهري عن ابن الأعرابي رجل عديم لا عقل له، ومعدوم لا مال له، قال في المصابيح: "كأنهم نزلوا وجود من لا مال لهمنزلة العدم". (وتقري الضيف) بفتح أوّله بلا همز ثلاثيًا قال الآبي وسمع بضمها رباعيًّا، أي تهيىء له طعامه ونزله. (وتعين على نوائب الحق) أي حوادثه، وإنما قالت نوائب الحق لأنها تكون في الحق والباطل. قال لبيد: نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشرّ لازب ولذلك أضافتها إلى الحق، وفيه إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وهذه الخصلة جامعة لأفراد ما سبق وغيره، وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد بأن. واللام، لتنزيل حيرته ودهشته واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي جامع لأصول مكارم الأخلاق. وفيه دليل على أن من طبع على أفعال الخير لا يصيبه ضير. (فانطلقت) أي مضت (به خديجة) رضي الله عنها مصاحبة له لأنها تلزم الفعل اللازم المعدى بالباء بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته، (حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة) بنصب ابن الأخير بدلاً من ورقة أو صفة، ولا يجوز جره لأنه يصير صفة لعبد العزى وليس كذلك، ويكتب بالألف ولا تحذف لأنه لم يقع بين علمين وراء ورقة مفتوحة، وتجتمع معه خديجة في أسد لأنها بنت خويلد بن أسد. (وكان) ورقة (امرأً قد) ترك عبادة الأوثان و (تنصَّر)، وللأربعة وكان امرأ تنصر، (في الجاهلية) بإسقاط قد، وذلك أنه خرج هو ويزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية للقيه من لم يبدل شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، (وكان) ورقة أيضًا (يكتب الكتاب العبراني) أي الكتابة العبرانية، وفي مسلم كالبخاري في الرؤيا الكتاب العربي، وصححه الزركشي باتفاقهما، (فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب) أي الذي شاء الله كتابته، فحذف العائد والعبرانية بكسر العين فيها نسبة إلى العبر بكسر العين وإسكان الموحدة، زيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس. قيل سميت بذلك لأن الخليل عليه السلام تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمروذ، وقيل: إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، وعن سفيان ما نزل من السماء وحي إلا بالعربية، وكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها، والباء في بالعبرانية تتعلق بقوله فيكتب، أي يكتب باللغة العبرانية من الإنجيل. وذلك لتمكنه في دين النصارى ومعرفته بكتابهم. (وكان) ورقة (شيخًا كبيرًا) حال كونه (قد عمي فقالت له خديجة) رضي الله تعالى عنها: (يا ابن عمّ اسمع) بهمرّة وصل (من ابن أخيك) تعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو قالته على سبيل الاحترام، (فقال له) عليه السلام (ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبر ما) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني بخبر ما (رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس) بالنون والسين المهملة وهو صاحب السرّ كما عند المؤلف في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال ابن دريد: هو صاحب سرّ الوحي والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر (الذي نزل الله على موسى)، زاد الأصيلي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونزل بحذف الهمزة يستعمل فيما نزل نجومًا، وللكشميهني أنزل الله ويستعمل فيما نزل جملة، وفي التفسير أنزل مبنيًّا للمفعول. فإن قلت: لم قال موسى ولم يقل عيسى مع كونه أي ورقة نصرانيًا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام وكذلك كتاب نبينا عليه الصلاة والسلام بخلاف عيسى، فإن كتابه أمثال ومواعظ أو قاله تحقيقًا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوّته، وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ عيسى، (يا ليتني فيها) أي في مدة النبوة أو الدعوة، وجعل أبو البقاء المنادى محذوفًا أي يا محمد، وتعقب بأن قائل ليتني قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى كقول مريم " {يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم: 23]، وأجيب بأنه قد يجوز أن يجرد من نفسه نفسًا فيخاطبها، كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني متُّ، وتقديره هنا ليتني أكون في أيام الدعوة، (جذعًا) بفتح الجيموالمعجمة وبالنصب خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت قوله فيها أي ليتني كائن فيها حال الشبيبة والقوة لأنصرك، أو على أن ليت تنصب الجزأين، أو بفعل محذوف أي جعلت فيها جزعًا. وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي جذع بالرفع خبر ليت، وحينئذ فالجار يتعلق بما فيه من معنى الفعل كأنه قال: يا ليتني شاب فيها، والرواية الأولى أكثر وأشهر، والجذع هو الصغير من البهائم، واستعير للإنسان، أي يا ليتني كنت شابًّا عند ظهور نبوّتك حتى أقوى على المبالغة في نصرتك. (ليتني) وللأصيلى يا ليتني (أكون حيًّا إذ يخرجك قومك) من مكة، واستعمل إذ في المستقبل كإذا على حد: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39]. قال ابن ملك: وهو صحيح، وتعقبه البلقيني بأن النحاة منعوا وروده وأوّلوا ما ظاهره ذلك، فقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالّة على المضي لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته. ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وهو على سبيل المجاز كالأوّل، وعورض بأن المؤولين ليسوا النحويين بل البيانيون، وبأنه كيف يمنع وروده مع وجوده في أفصح الكلام؟ وأجيب بأنه لعله أراد بمنع الورود ورودًا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال. فإن قلت: كيف تمنى ورقة مستحيلاً وهو عود الشباب؟ أجيب: بأنه يسوغ تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، أو بأن التمني ليس مقصودًا على بابه، بل المراد به التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوّة تصديقه فيما يجيء به، أو قاله على سبيل التحسّر لتحقّقه عدم عود الشباب. (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أو) بفتح الواو (مخرجيَّ هم) بتشديد الياء مفتوحة، لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت، ثم أبدلت الضمة التي كانت سابقة الواو كسرة وفتحت ياء مخرجيّ تخفيفًا، وهم مبتدأ خبره مخرجيّ مقدمًا، ولا يجوز العكس لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة، لأن إضافة مخرجيّ غير محضة لأنها لفظية لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، والهمزة للاستفهام الإنكاري لأنه استبعد إخراجه عن الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضي ذلك، فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم محل الروح من الجسد. فإن قلت: الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف نحو: {فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [الأنعام: 95] و {فَأَيْنَ تَذْهَبُون} [التكوير: 26] وحينئذ ينبغي أن يقول هنا وأمخرجيّ، لأن العاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف؟ أجيب: بأن الهمزة خصّت بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام وهو له الصدر نحو: أو لم ينظروا، أفلم يسيروا، هذا مذهب سيبويه والجمهور. وقال جار الله وجماعة: إن الهمزة في محلها الأصلي وإن العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف والتقدير أمعاديّ هم ومخرجيّ هم؟ وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر. فإن قلت: كيف عطف قوله أو مخرجيّ هم وهو إنشاء على قول ورقة: إذ يخرجك قومك وهو خبر، وعطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، وأيضًا فهو عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف؟ أجيب بأن القول بأن عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز إنما هو رأي أهل البيان، والأصح عند أهل العربية جوازه، وأما أهل البيان فيقدرون في مثل ذلك جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها، فالتركيب سائغ عند الفريقين، أما المجوزون لعطف الإنشاء على الخبر فواضح، وأما المانعون فعلى التقدير المذكور. وقال بعضهم: يصح أن تكون جملة الاستفهام معطوفة على جملة التمني في قوله ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، بل هذا هو الظاهر، فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها، الذي هو ظرف متعلق بها، والتمني إنشاء فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء. وأما العطف على جملة في كلام الغير فسائغ معروف في القرآن العظيم والكلام الفصيح. قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]. (قال)ورقة (نعم لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به) من الوحي (إلا عُودي) لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك، (وإن يدركني) بالجزم بأن الشرطية (يومك) بالرفع فاعل يدركني، أي يوم انتشار نبوّتك، (أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا) بالنصب على المصدرية (مؤزرًا) بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهملة مهموزًا، أي قويًّا بليغًا وهو صفة لنصرًا، ولما كان ورقة سابقًا واليوم متأخرًا أسند الإدراك لليوم، لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق، وهذا ظاهره أنه أقرّ بنبوّته ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا. وفي إثبات الصحبة له نظر، لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحق، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل، الحديث. وفي آخره فلما توفي قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني. وأخرجه البيهقي من هذا الوجه في الدلائل، وقال: إنه منقطع، ومال البلقيني إلى أنه يكون بذلك أوّل من أسلم من الرجال، وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده في الصحابة. (ثم لم ينشب) بفتح المثناة التحتية والمعجمة أي لم يلبث (ورقة) بالرفع فاعل ينشب (أن توفي) بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهو بدل اشتمال من ورقة أي لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت موت ورقة فقال الواقدي: إنه خرج إلى الشام فلما بلغه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالقتال بعد الهجرة أقبل يريده حتى إذا كان ببلاد لخم وجذام قتلوه وأخذوا ما معه وهذا غلط بين، فإنه مات بمكة بعد المبعث بقليل جدًّا ودفن بمكة كما نقله البلاذري وغيره، ويعضد قوله هنا وكذا في مسلم، ثم لم ينشب ورقة أن توفي. (وفتر الوحي) أي احتبس ثلاث سنين كما في تاريخ أحمد، وجزم به ابن إسحق، وفي بعض الأحاديث أنه قدر سنتين ونصف، وزاد معمر عن الزهري في التعبير حتى حزن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك من جهة الإسناد والمتن والمعنى في سورة اقرأ من التفسير. فإن قلت: إن قوله ثم لم ينشب ورقة أن توفي معارض بما عند ابن إسحق في السبرة أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم، فإنه يقتضي تأخره إلى زمن الدعوة ودخول بعض الناس في الإسلام. أجيب: بأنّا لا نسلم المعارضة لأن شرطها المساواة. وما روي في السيرة لا يقاوم ما في الصحيح، ولئن سلمنا فلعل راوي ما في الصحيح لم يحفظ لورقة بعد ذلك شيئًا. ومن ثم جعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى ما علمه منه لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وحينئذ فتكون الواو في قوله: وفتر الوحي ليست للترتيب. ورواة هذا الحديث ما بين مصريّ ومدنيّ، وفيه تابعيّ عن تابعي، وأخرجه المؤلف في التفسير والتعبير والإيمان، ومسلم في الإيمان، والترمذي والنسائي في التفسير. .